فصل: تفسير الآيات رقم (75- 113)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 113‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏82‏)‏ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏ فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ‏(‏99‏)‏ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏100‏)‏ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ‏(‏101‏)‏ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ‏(‏102‏)‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ‏(‏103‏)‏ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ‏(‏104‏)‏ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏105‏)‏ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ‏(‏106‏)‏ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ‏(‏107‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏108‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ‏(‏109‏)‏ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏110‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏111‏)‏ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏112‏)‏ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ‏(‏113‏)‏‏}‏

لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين‏:‏ ذكر تفصيل بعض ما أجمله، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ‏}‏ واللام هي‏:‏ الموطئة للقسم، وكذا اللام في قوله‏:‏ ‏{‏فَلَنِعْمَ المجيبون‏}‏ أي‏:‏ نحن، والمراد‏:‏ أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه، فأجاب الله دعاءه، وأهلك قومه بالطوفان‏.‏ فالنداء هنا هو‏:‏ نداء الدعاء لله، والاستغاثة به، كقوله‏:‏ ‏{‏رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 10‏]‏ قال الكسائي‏:‏ أي‏:‏ فلنعم المجيبون له كنا ‏{‏فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم‏}‏ المراد بأهله‏:‏ أهل دينه، وهم من آمن معه، وكانوا ثمانين، والكرب العظيم هو‏:‏ الغرق، وقيل‏:‏ تكذيب قومه له، وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه، ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل، ولم يبق إلا أولاده‏.‏ قال سعيد بن المسيب‏:‏ كان ولد نوح ثلاثة، والناس كلهم من ولد نوح، فسام أبو العرب، وفارس، والروم، واليهود، والنصارى‏.‏ وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب‏:‏ السند‏.‏ والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر وغيرهم‏.‏ ويافث أبو الصقالب، والترك، والخزر، ويأجوج، ومأجوج وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان لمن مع نوح ذرّية كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏قِيلَ يانوح اهبط بسلام مّنَّا وبركات عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 48‏]‏، فيكون على هذا معنى ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏، وذرّيته وذرّية من معه دون ذرّية من كفر، فإن الله أغرقهم، فلم يبق لهم ذرّية‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين‏}‏ يعني‏:‏ في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم، والمتروك هذا هو قوله‏:‏ ‏{‏سلام على نُوحٍ‏}‏ أي‏:‏ تركنا هذا الكلام بعينه، وارتفاعه على الحكاية، والسلام هو‏:‏ الثناء الحسن، أي‏:‏ يثنون عليه ثناءً حسناً، ويدعون له، ويترحمون عليه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله‏:‏ ‏{‏سلام على نُوحٍ‏}‏‏.‏ قال الكسائي‏:‏ في ارتفاع ‏{‏سلام‏}‏، وجهان‏:‏ أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال‏:‏ سلام على نوح‏.‏ والوجه الثاني أن يكون المعنى‏:‏ وأبقينا عليه، وتمّ الكلام، ثم ابتدأ، فقال‏:‏ سلام على نوح، أي‏:‏ سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين‏.‏ قال المبرد‏:‏ أي‏:‏ تركنا عليه هذه الكلمة باقية، يعني‏:‏ يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله‏:‏ ‏{‏سُورَةٌ أنزلناها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 1‏]‏، وقيل‏:‏ إنه ضمن تركنا معنى‏:‏ قلنا‏.‏ قال الكوفيون‏:‏ جملة ‏{‏سلام على نوح في العالمين‏}‏ في محل نصب مفعول ‏{‏تركنا‏}‏، لأنه ضمن معنى قلنا‏.‏

قال الكسائي‏:‏ وفي قراءة ابن مسعود «سلاماً» منصوب بتركنا، أي‏:‏ تركنا عليه ثناءً حسناً، وقيل‏:‏ المراد بالآخرين‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ و‏{‏في العالمين‏}‏ متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبراً، وهو على نوح، أي‏:‏ سلام ثابت، أو مستمرّ، أو مستقرّ على نوح في العالمين من الملائكة، والجنّ، والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قيل‏:‏ ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه، وبقاء الثناء من الله عليه، وبقاء ذريته، أي‏:‏ إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله، وأفعاله راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في ‏{‏كذلك‏}‏ نعت مصدر محذوف، أي‏:‏ جزاء كذلك الجزاء ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ هذا بيان لكونه من المحسنين، وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله ‏{‏ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين‏}‏ أي‏:‏ الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله، ولا صدّقوا نوحاً‏.‏

ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم، وبيّن‏:‏ أنه ممن شايع نوحاً، فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم‏}‏ أي‏:‏ من أهل دينه، وممن شايعه، ووافقه على الدعاء إلى الله، وإلى توحيده، والإيمان به‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أي‏:‏ على منهاجه، وسنّته‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ الشيعة‏:‏ الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ وإن من شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكذا قال الكلبي‏.‏ ولا يخفى ما في هذا من الضعف، والمخالفة للسياق‏.‏ والظرف في قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ منصوب بفعل محذوف، أي‏:‏ اذكر، بما في الشيعة من معنى المتابعة‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ لا يجوز؛ لأن فيه الفصل بين العامل، والمعمول بأجنبيّ، وهو‏:‏ إبراهيم، والأولى أن يقال‏:‏ إن لام الابتدء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك، والشك‏.‏ وقيل‏:‏ هو الناصح لله في خلقه، وقيل‏:‏ الذي يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور‏.‏ ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ عند دعائه إلى توحيده، وطاعته‏.‏ الثاني‏:‏ عند إلقائه في النار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ‏}‏ بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى‏:‏ وقت قال لأبيه آزر، وقومه من الكفار‏:‏ أيّ شيء تعبدون ‏{‏أَإِفْكا ءالِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ فَمَا‏}‏ انتصاب «إفكاً» على أنه مفعول لأجله، وانتصاب ‏{‏آلهة‏}‏ على أنه مفعول ‏{‏تريدون‏}‏، والتقدير‏:‏ أتريدون آلهة من دون الله للإفك، و‏{‏دون‏}‏ ظرف ل ‏{‏تريدون‏}‏، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام‏.‏ وقيل‏:‏ انتصاب «إفكاً» على أنه مفعول به ل ‏{‏تريدون‏}‏، و‏{‏آلهة‏}‏ بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأوّل‏.‏

وقيل‏:‏ انتصابه على الحال من فاعل ‏{‏تريدون‏}‏ أي‏:‏ أتريدون آلهة آفكين، أو ذوي إفك‏.‏ قال المبرد‏:‏ الإفك‏:‏ أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض ‏{‏فَمَا ظَنُّكُم بِرَبّ العالمين‏}‏ أي‏:‏ ما ظنكم به إذا لقيتموه، وقد عبدتم غيره، وما ترونه يصنع بكم‏؟‏ وهو تحذير مثل قوله‏:‏ ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏ 6‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أيّ شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره‏؟‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم * فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ كانوا يتعاطون علم النجوم، فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم؛ لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم، فاعتلّ بالسقم‏:‏ وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم، فنظر إلى النجوم يريهم أنه مستدلّ بها على حاله، فلما نظر إليها قال‏:‏ إني سقيم، أي‏:‏ سأسقم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا‏:‏ أنه نظر فيما نجم له من الرأي، أي‏:‏ فيما طلع له منه، فعلم أن كلّ شيء يسقم ‏{‏فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ‏}‏‏.‏ قال الخليل، والمبرد‏:‏ يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره‏:‏ نظر في النجوم‏.‏ وقيل‏:‏ كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معنى‏:‏ ‏{‏إني سقيم‏}‏‏:‏ سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، وهذا تورية، وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارّة‏:‏ هي أختي يعني‏:‏ أخوّة الدين‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أشار لهم إلى مرض يسقم، ويعدي، وهو‏:‏ الطاعون، وكانوا يهربون من ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ تركوه، وذهبوا مخافة العدوى ‏{‏فَرَاغَ إلى ءالِهَتِهِمْ‏}‏ يقال‏:‏ راغ يروغ روغاً، وروغاناً‏:‏ إذا مال، ومنه طريق رائغ، أي‏:‏ مائل‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

فيريك من طرف اللسان حلاوة *** ويروغ عنك كما يروغ الثعلب

وقال السدّي‏:‏ ذهب إليهم، وقال أبو مالك‏:‏ جاء إليهم، وقال الكلبي‏:‏ أقبل عليهم، والمعنى متقارب ‏{‏فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء، وسخرية‏:‏ ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها، وخاطبها كما يخاطب من يعقل؛ لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة‏.‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ‏}‏، فإنه خاطبهم خطاب من يعقل، والاستفهام للتهكم بهم؛ لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق‏.‏ قيل‏:‏ إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها، وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم‏.‏ وقيل‏:‏ تركوه للسدنة، وقيل‏:‏ إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها‏.‏

‏{‏فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين‏}‏ أي‏:‏ فمال عليهم يضربهم ضرباً باليمين، فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ، لأنه بمعنى‏:‏ ضرب‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال المفسرون‏:‏ يعني‏:‏ بيده اليمنى يضربهم بها‏.‏ وقال السدي‏:‏ بالقوة، والقدرة؛ لأن اليمين أقوى اليدين‏.‏ قال الفراء، وثعلب‏:‏ ضرباً بالقوة، واليمين القوة‏.‏ وقال الضحاك، والربيع بن أنس‏:‏ المراد باليمين‏:‏ اليمين التي حلفها حين قال‏:‏ ‏{‏وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 57‏]‏ وقيل‏:‏ المراد باليمين هنا‏:‏ العدل كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44، 45‏]‏ أي‏:‏ بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور، وأول هذه الأقوال أولاها‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ‏}‏ أي‏:‏ أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما علموا بما صنعه بها، ويزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏يزفون‏}‏ بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف، أي‏:‏ دخل في الزفيف، أو يحملون غيرهم على الزفيف‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ أزففت الإبل، أي‏:‏ حملتها على أن تزف‏.‏ وقيل‏:‏ هما لغتان، يقال‏:‏ زف القوم، وأزفوا، وزفت العروس، وأزففتها، حكي ذلك عن الخليل‏.‏ قال النحاس‏:‏ زعم أبو حاتم‏:‏ أنه لا يعرف هذه اللغة، يعني‏:‏ يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم‏:‏ أطردت الرحل، أي‏:‏ صيرته إلى ذلك، وقال المبرد‏:‏ الزفيف‏:‏ الإسراع‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الزفيف‏:‏ أوّل عدو النعام‏.‏ وقال قتادة، والسدّي‏:‏ معنى يزفون‏:‏ يمشون‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يسعون‏.‏ وقال يحيى بن سلام‏:‏ يرعدون غضباً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يختالون، أي‏:‏ يمشون مشيء الخيلاء، وقيل‏:‏ يتسللون تسللاً بين المشي، والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وقرئ ‏"‏ يزفون ‏"‏ على البناء للمفعول، وقرئ ‏"‏ يزفون ‏"‏ كيرمون‏.‏ وحكى الثعلبي عن الحسن، ومجاهد، وابن السميفع‏:‏ أنهم قرءوا ‏"‏ يرفون ‏"‏ بالراء المهملة، وهي‏:‏ ركض بين المشي والعدو‏.‏

‏{‏قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام، ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها، فقال مبكتاً لهم، ومنكراً عليهم‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ أي‏:‏ أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت‏:‏ النجر، والبري، نحته ينحته بالكسر نحتاً، أي‏:‏ براه، والنحاتة البراية، وجملة ‏{‏والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون، و«ما» في ‏{‏وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ موصولة، أي‏:‏ وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولاً أولياً، ويكون معنى العمل هنا‏:‏ التصوير، والنحت، ونحوهما، ويجوز أن تكون مصدرية، أي‏:‏ خلقكم، وخلق عملكم، ويجوز أن تكون استفهامية، ومعنى الاستفهام‏:‏ التوبيخ، والتقريع، أي‏:‏ وأي شيء تعملون، ويجوز أن تكون نافية، أي‏:‏ إن العمل في الحقيقة ليس لكم، فأنتم لا تعملون شيئاً، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال‏:‏ إنها مصدرية، ولكن بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام‏.‏

وجملة ‏{‏قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم‏}‏ مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة، فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة، ويملؤوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم‏:‏ النار الشديدة الاتقاد‏:‏ قال الزجاج، وكل نار بعضها فوق بعض، فهي‏:‏ جحيم، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه، أي‏:‏ في جحيم ذلك البنيان، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها، وجعلها عليه برداً وسلاماً، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فجعلناهم الأسفلين‏}‏ الكيد‏:‏ المكر، والحيلة، أي‏:‏ احتالوا لإهلاكه، فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين؛ لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها، ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها برداً وسلاماً، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل، وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير‏.‏

ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته ‏{‏وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى‏}‏ أي‏:‏ مهاجر من بلد قومي، الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام، وكفراً بالله، وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه، أو إلى حيث أتمكن من عبادته ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ أي‏:‏ سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي‏.‏

قيل‏:‏ إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى، قال مقاتل‏:‏ فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ أي‏:‏ ولداً صالحاً من الصالحين يعينني على طاعتك، ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الإطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 53‏]‏، وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد، فقوله‏:‏ ‏{‏فبشرناه بغلام حَلِيمٍ‏}‏ يدل على أنه ما أراد بقوله‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏ إلا الولد، ومعنى حليم‏:‏ أن يكون حليماً عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر، ويصير حليماً، لأن الصغير لا يوصف بالحلم‏.‏

قال الزجاج‏:‏ هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر، وأنه يبقى حتى ينتهي في السن، ويوصف بالحلم ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة، والتقدير‏:‏ فوهبنا له الغلام، فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه‏.‏

قال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ أي‏:‏ شبّ، وأدرك سعيه سعي إبراهيم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لما مشى معه‏.‏ قال الفراء‏:‏ كان يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو السعي في العبادة، وقيل‏:‏ هو الاحتلام ‏{‏قَالَ يَابَنِى إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ‏}‏ قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ‏:‏ إني رأيت في المنام هذه الرؤيا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات‏.‏ قال قتادة‏:‏ رؤيا الأنبياء حقّ، إذا رأوا شيئاً فعلوه‏.‏

وقد اختلف أهل العلم في الذبيح‏:‏ هل هو إسحاق، أو إسماعيل‏؟‏ قال القرطبي‏:‏ فقال أكثرهم‏:‏ الذبيح إسحاق، وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضاً عن جابر، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعمر بن الخطاب، قال‏:‏ فهؤلاء سبعة من الصحابة‏.‏ قال‏:‏ ومن التابعين، وغيرهم‏:‏ علقمة، والشعبي، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وكعب الأحبار، وقتادة، ومسروق، وعكرمة، والقاسم بن أبي برزة، وعطاء، ومقاتل، وعبد الرحمن بن سابط، والزهري، والسدّي، وعبد الله بن أبي الهذيل، ومالك بن أنس كلهم قالوا‏:‏ الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود، والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس، وابن جرير الطبري، وغيرهما‏.‏ قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هو إسماعيل، وممن قال بذلك‏:‏ أبو هريرة، وأبو الطفيل عامر ابن واثلة، وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس أيضاً، ومن التابعين‏:‏ سعيد بن المسيب، والشعبي، ويوسف بن مهران، ومجاهد، والربيع بن أنس، ومحمد بن كعب القرظي، والكلبي، وعلقمة، وعن الأصمعي قال‏:‏ سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال‏:‏ يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة‏؟‏ وإنما كان إسماعيل بمكة‏.‏ قال ابن كثير في تفسيره‏:‏ وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال عن بعض الصحابة، وليس في ذلك كتاب، ولا سنّة، وما أظنّ ذلك تلقي إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد، ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين‏}‏ ا ه‏.‏

واحتجّ القائلون بأنه إسحاق بأن الله عزّ وجلّ قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارّة، وابن أخيه لوط، فقال‏:‏ ‏{‏إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى سَيَهْدِينِ‏}‏ أنه دعا، فقال‏:‏ ‏{‏رَبّ هَبْ لِى مِنَ الصالحين‏}‏، فقال تعالى‏:‏

‏{‏فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 49‏]‏‏.‏ ولأن الله قال‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏، فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق‏}‏، وقال هنا‏:‏ ‏{‏بغلام حَلِيمٍ‏}‏ وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الله أعلم أيهما الذبيح ا ه‏.‏ وما استدلّ به الفريقان يمكن الجواب عنه، والمناقشة له‏.‏

ومن جملة ما احتجّ به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله‏:‏ ‏{‏وإسماعيل واليسع وَذَا الكفل كُلٌّ مّنَ الصابرين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 85‏]‏، وهو‏:‏ صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 54‏]‏؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً‏}‏ فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاً فإن الله قال‏:‏ ‏{‏فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 71‏]‏، فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضاً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس، وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة ‏{‏فانظر مَاذَا ترى‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي «ترى» بضم الفوقية، وكسر الراء، والمفعولان محذوفان، أي‏:‏ انظر ماذا تريني إياه من صبرك، واحتمالك‏.‏ وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء، والراء من الرأي، وهو‏:‏ مضارع رأيت، وقرأ الضحاك، والأعمش، «ترى» بضم التاء، وفتح الراء مبنياً للمفعول، أي‏:‏ ماذا يخيل إليك، ويسنح لخاطرك‏.‏ قال الفراء في بيان معنى القراءة الأولى‏:‏ انظر ماذا ترى من صبرك، وجزعك‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لم يقل هذا أحد غيره‏.‏ وإنما قال العلماء ماذا تشير، أي‏:‏ ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد‏:‏ إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة، وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس وقال‏:‏ هذا يكون من رؤية العين، وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم‏.‏

‏{‏قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ‏}‏ أي‏:‏ ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، و«ما» موصولة، وقيل‏:‏ مصدرية على معنى‏:‏ افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول، وتسمية المأمور به أمراً، والأوّل أولى ‏{‏سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين‏}‏ على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركاً بها منه ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ أي‏:‏ استسلما لأمر الله، وأطاعاه، وانقادا له‏.‏ قرأ الجمهور «أسلمنا»، وقرأ عليّ، وابن مسعود، وابن عباس «فلما سلما» أي‏:‏ فوضا أمرهما إلى الله، وروي عن ابن عباس‏:‏ أنه قرأ «استسلما» قال قتادة‏:‏ أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال‏:‏ سلم لأمر الله، وأسلم، واستسلم بمعنى واحد‏.‏

وقد اختلف في جواب «لما» ماذا هو‏؟‏ فقيل‏:‏ هو محذوف، وتقديره‏:‏ ظهر صبرهما، أو أجزلنا لهما أجرهما، أو فديناه بكبش، هكذا قال البصريون‏.‏ وقال الكوفيون‏:‏ الجواب هو‏:‏ ‏{‏ناديناه‏}‏، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني، ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش‏:‏ الجواب ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏، والواو زائدة، وروي هذا أيضاً عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأوّل ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ التلّ‏:‏ الصرع والدفع، يقال‏:‏ تللت الرجل‏:‏ إذا ألقيته، والمراد أنه أضجعه‏:‏ على جبينه على الأرض، والجبين‏:‏ أحد جانبي الجبهة، فللوجه جبينان، والجبهة بينهما، وقيل‏:‏ كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرّقة لقلبه‏.‏ واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه، فقيل‏:‏ هو مكة في المقام‏.‏ وقيل‏:‏ في المنحر بمنى عند الجمار‏.‏ وقيل‏:‏ على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل‏:‏ بالشام‏.‏

‏{‏وناديناه أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ أي‏:‏ عزمت على الإتيان بما رأيته‏.‏ قال المفسرون‏:‏ لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا، وجعله مصدّقاً بمجرد العزم، وإن لم يذبحه؛ لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله، وقد فعلا‏.‏ قال القرطبي‏:‏ قال أهل السنّة‏:‏ إن نفس الذبح لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل؛ لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء‏.‏ قال‏:‏ ومعنى‏:‏ ‏{‏صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ ليس هذا مما ينسخ بوجه؛ لأن معنى ذبحت الشيء‏:‏ قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين، فيمرّ بها على حلقه، فتنقلب كما قال مجاهد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان كلما قطع جزءًا التأم، وقالت طائفة منهم السدّي‏:‏ ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس، فجعل إبراهيم يحزّ، ولا يقطع شيئاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج، وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح، فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له‏:‏ ‏{‏قد صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ أي‏:‏ نجزيهم بالخلاص من الشدائد، والسلامة من المحن، فالجملة كالتعليل لما قبلها‏.‏ قال مقاتل‏:‏ جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته، العفو عن ذبح ابنه‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين‏}‏ البلاء، والابتلاء‏:‏ الاختبار، والمعنى‏:‏ إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح، وفداه بالكبش، يقال‏:‏ أبلاه الله إبلاءً وبلاء‏:‏ إذا أنعم عليه والأوّلى أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير، والشرّ، ومنه

‏{‏وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 35‏]‏، ولكن المناسب للمقام المعنى الأول‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده‏.‏ قال‏:‏ وهذا من البلاء المكروه ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ الذبح‏:‏ اسم المذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم‏:‏ عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة، وإنما عظم قدره؛ لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل‏.‏ قال النحاس‏:‏ العظيم في اللغة يكون للكبير، وللشريف، وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف، أي‏:‏ المتقبل‏.‏ قال الواحدي‏:‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قد قيل‏:‏ إنه فدي بوعل، والوعل‏:‏ التيس الجبلي، ومعنى الآية‏:‏ جعلنا الذبح فداء له، وخلصناه به من الذبح ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين * سلام على إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ في الأمم الآخرة التي تأتي بعده، والسلام‏:‏ الثناء الجميل‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سلام منا، وقيل‏:‏ سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله ‏{‏سلام على نُوحٍ فِى العالمين‏}‏ وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه، ووجه إعرابه‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ أي‏:‏ مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ الذين أعطوا العبودية حقها، ورسخوا في الإيمان بالله، وتوحيده‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين‏}‏ أي‏:‏ بشرنا إبراهيم بولد يولد له، ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، وانتصاب ‏{‏نبياً‏}‏ على الحال، وهي‏:‏ حال مقدرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إن كان الذبيح إسحاق، فيظهر كونها مقدرة، والأولى أن يقال‏:‏ إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة‏.‏ هنا خاصة بنبوته‏.‏ وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط المقارنة للفعل، و‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ كما يجوز أن يكون صفة لنبياً، يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه، فتكون أحوالاً متداخلة ‏{‏وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق‏}‏ أي‏:‏ على إبراهيم، وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما‏.‏ وقيل‏:‏ كثرنا ولدهما، وقيل‏:‏ إن الضمير في ‏{‏عليه‏}‏ يعود إلى إسماعيل، وهو بعيد، وقيل‏:‏ المراد بالمباركة هنا‏:‏ هي‏:‏ الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ محسن في عمله بالإيمان، والتوحيد، وظالم لها بالكفر، والمعاصي لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بيّن أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف، والمحتد المبارك ليس بنافع لهم، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لآبائهم، فإن اليهود، والنصارى، وإن كانوا من ولد إسحاق، فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال البين، والعرب، وإن كانوا من ولد إسماعيل، فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام‏.‏

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ يقول‏:‏ لم يبق إلا ذرية نوح ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين‏}‏ يقول‏:‏ يذكر بخير‏.‏ وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين‏}‏ قال‏:‏ حام، وسام، ويافث‏.‏ وأخرج ابن سعد، وأحمد، والترمذي وحسنه، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن سمرة أيضاً‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم» والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف، وقد قيل‏:‏ إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط، وما عداه فبواسطة‏.‏ قال ابن عبد البرّ‏:‏ وقد روي عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله‏.‏ وأخرج البزار، وابن أبي حاتم، والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ولد نوح ثلاثة‏:‏ سام، وحام، ويافث، فولد سام العرب، وفارس، والروم، والخير فيهم، وولد يافث يأجوج، ومأجوج، والترك، والصقالبة، ولا خير فيهم، وولد حام القبط، والبربر، والسودان» وهو من حديث إسماعيل بن عياش، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب عنه‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم‏}‏ قال‏:‏ من أهل دينه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ مريض‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال‏:‏ مطعون‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ‏}‏ قال‏:‏ يخرجون‏.‏ وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى‏}‏ قال‏:‏ حين هاجر‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ قال‏:‏ العمل‏.‏ وأخرج الطبراني عنه أيضاً قال‏:‏ لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه‏:‏ إذا ذبحتني، فاعتزل لا أضطرب، فينتضح عليك دمي، فشده، فلما أخذ الشفرة، وأراد أن يذبحه نودي من خلفه ‏{‏أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا‏}‏ وأخرج أحمد عنه أيضاً مرفوعاً مثله مع زيادة‏.‏ وأخرجه عنه موقوفاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبراهيم‏}‏ قال‏:‏ من شيعة نوح على منهاجه، وسننه ‏{‏فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى‏}‏ قال‏:‏ شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل ‏{‏فَلَمَّا أَسْلَمَا‏}‏ سلما ما أمر به ‏{‏وَتَلَّهُ‏}‏ وضع وجهه إلى الأرض‏.‏

فقال‏:‏ لا تذبحني، وأنت تنظر عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي‏.‏ وأن أجزع، فأنكص، فأمتنع منك‏.‏ ولكن اربط يدي إلى رقبتي، ثم ضع وجهي إلى الأرض، فلما أدخل يده ليذبحه، فلم تصل المدية حتى نودي‏:‏ أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فأمسك يده، قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ بكبش عظيم متقبل‏.‏ وزعم ابن عباس‏:‏ أن الذبيح إسماعيل‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رؤيا الأنبياء وحي» وأخرجه البخاري، وغيره من قول عبيد بن عمير، واستدل بهذه الآية‏.‏ وأخرج ابن جرير، والحاكم من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال‏:‏ المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق، وكذبت اليهود‏.‏ وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق الشعبي، عن ابن عباس قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسماعيل‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد، ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسماعيل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك، وأبي الطفيل، عن ابن عباس قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسماعيل‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش‏.‏ وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال‏:‏ رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول‏:‏ إن الذي أمر بذبحه‏:‏ إسماعيل‏.‏ وأخرج البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قال نبي الله داود‏:‏ يا رب أسمع الناس يقولون‏:‏ رب إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، فاجعلني رابعاً، قال‏:‏ إن إبراهيم ألقي في النار، فصبر من أجلي، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك بلية لم تنلك» وفي إسناده الحسن بن دينار البصري، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف‏.‏ وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه‏.‏ وأخرج الدارقطني في الأفراد، والديلمي عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الذبيح إسحاق» وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الذبيح إسحاق» وأخرج ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن بهار، وكانت له صحبة، قال‏:‏ إسحاق ذبيح الله‏.‏

وأخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أكرم الناس‏؟‏ قال‏:‏ «يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله» وأخرج عبد الرزاق، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسحاق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسحاق‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال‏:‏ الذبيح‏:‏ إسحاق‏.‏

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ‏}‏ قال‏:‏ أكبه على وجهه‏.‏ وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه قال‏:‏ صرعه للذبح‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏ قال‏:‏ كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عنه قال‏:‏ فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس‏:‏ أن رجلاً قال‏:‏ نذرت لأنحر نفسي، فقال ابن عباس‏:‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ثم تلا ‏{‏وفديناه بِذِبْحٍ عَظِيمٍ‏}‏، فأمره بكبش، فذبحه‏.‏ وأخرج الطبراني من طريق أخرى عنه نحوه‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين‏}‏ قال‏:‏ إنما بشر به نبياً حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوّة عند مولده‏.‏

وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق، أو إسماعيل‏؟‏ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع، أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن جرير، فإنه رجح أنه إسحاق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا، وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل، وجعل الأدلة على ذلك أقوى، وأصح، وليس الأمر كما ذكره، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحاق لم تكن فوقها، ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء‏.‏ وما روي عنه، فهو إما موضوع، أو ضعيف جدًّا‏.‏ ولم يبق إلا مجرّد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وهي محتملة، ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السلامة من الترجيح، بلا مرجح، ومن الاستدلال بما هو محتمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏114- 148‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏114‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏115‏)‏ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ‏(‏116‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ‏(‏117‏)‏ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏118‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏119‏)‏ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏120‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏121‏)‏ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏122‏)‏ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏123‏)‏ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏124‏)‏ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ‏(‏125‏)‏ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏126‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏128‏)‏ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ ‏(‏129‏)‏ سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ‏(‏130‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏131‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏133‏)‏ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ‏(‏134‏)‏ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ‏(‏135‏)‏ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ‏(‏136‏)‏ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ‏(‏137‏)‏ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏138‏)‏ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏139‏)‏ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏140‏)‏ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ‏(‏141‏)‏ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏142‏)‏ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ‏(‏143‏)‏ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏144‏)‏ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ‏(‏145‏)‏ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ‏(‏146‏)‏ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ‏(‏147‏)‏ فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ‏(‏148‏)‏‏}‏

لما فرغ سبحانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح، وما منّ عليه بعد ذلك من النبوّة ذكر ما منّ به على موسى، وهارون، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون‏}‏ يعني‏:‏ بالنبوّة، وغيرها من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما ‏{‏ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم‏}‏ المراد بقومهما هم‏:‏ المؤمنون من بني إسرائيل، والمراد بالكرب العظيم هو‏:‏ ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء، وقيل‏:‏ هو الغرق الذي أهلك فرعون، وقومه، والأوّل أولى ‏{‏ونصرناهم‏}‏ جاء بضمير الجماعة‏.‏ قال الفراء‏:‏ الضمير لموسى، وهارون، وقومهما، لأن قبله، ‏{‏نجيناهما، وقومهما‏}‏ والمراد بالنصر‏:‏ التأييد لهم على عدوّهم ‏{‏فَكَانُواْ‏}‏ بسبب ذلك ‏{‏هُمُ الغالبين‏}‏ على عدوّهم بعد أن كانوا تحت أسرهم، وقهرهم، وقيل‏:‏ الضمير في ‏{‏نصرناهم‏}‏ عائد على الاثنين موسى، وهارون تعظيماً لهما، والأوّل أولى ‏{‏وءاتيناهما الكتاب المستبين‏}‏ المراد بالكتاب‏:‏ التوراة، والمستبين‏:‏ البين الظاهر، يقال‏:‏ استبان كذا‏.‏ أي‏:‏ صار بيناً ‏{‏وهديناهما الصراط المستقيم‏}‏ أي‏:‏ القيم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام، فإنه الطريق الموصلة إلى المطلوب ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الآخرين * سلام على موسى وهارون‏}‏ أي‏:‏ أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل، وقد قدّمنا الكلام في السلام، وفي وجه إعرابه بالرفع، وكذلك تقدّم تفسير ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ في هذه السورة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ قال المفسرون‏:‏ هو نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، وقصته مشهورة مع قومه، قيل‏:‏ وهو إلياس بن ياس من سبط هارون أخي موسى‏.‏ قال ابن إسحاق، وغيره‏:‏ كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، وقيل‏:‏ هو إدريس، والأوّل أولى‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏إلياس‏}‏ بهمزة مكسورة مقطوعة، وقرأ ابن ذكوان بوصلها، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر، وقرأ ابن مسعود، والأعمش، ويحيى بن وثاب «وإن إدريس لمن المرسلين»، وقرأ أبيّ «وإن إبليس» بهمزة مكسورة، ثم تحتية ساكنة، ثم لام مكسورة، ثم تحتية ساكنة، ثم سين مهملة مفتوحة ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ هو ظرف لقوله ‏{‏من المرسلين‏}‏، أو متعلق بمحذوف، أي‏:‏ اذكر يا محمد إذ قال، والمعنى‏:‏ ألا تتقون عذاب الله‏؟‏ ثم أنكر عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ هو‏:‏ اسم لصنم كانوا يعبدونه، أي‏:‏ أتعبدون صنماً، وتطلبون الخير منه‏.‏

قال ثعلب‏:‏ اختلف الناس في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَعْلاً‏}‏ فقالت طائفة‏:‏ البعل هنا الصنم، وقالت طائفة‏:‏ البعل هنا ملك، وقال ابن إسحاق‏:‏ امرأة كانوا يعبدونها‏.‏ قال الواحدي‏:‏ والمفسرون يقولون‏:‏ رباً، وهو بلغة اليمن، يقولون للسيد، والربّ‏:‏ البعل‏.‏

قال النحاس‏:‏ القولان صحيحان، أي‏:‏ أتدعون صنماً عملتوه رباً‏؟‏ ‏{‏وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين‏}‏ أي‏:‏ وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق، وانتصاب الاسم الشريف في قوله‏:‏ ‏{‏الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابَائِكُمُ الأولين‏}‏ على أنه بدل من ‏{‏أحسن‏}‏، هذا على قراءة حمزة، والكسائي، والربيع بن خثيم، وابن أبي إسحاق، ويحيى بن وثاب، والأعمش، فإنهم قرؤوا بنصب الثلاثة الأسماء‏.‏ وقيل‏:‏ النصب على المدح، وقيل‏:‏ على عطف البيان، وحكى أبو عبيد‏:‏ أن النصب على النعت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو غلط، وإنما هو بدل، ولا يجوز النعت‏.‏ لأنه ليس بتحلية، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم‏.‏ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع بالرفع‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ بمعنى‏:‏ هو الله ربكم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأولى ما قيل‏:‏ إنه مبتدأ، وخبر بغير إضمار، ولا حذف‏.‏ وحكي عن الأخفش‏:‏ أن الرفع أولى وأحسن‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من رفع، أو نصب لم يقف على ‏{‏أحسن الخالقين‏}‏ على جهة التمام؛ لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعاً، والمعنى أنه خالقكم، وخالق من قبلكم، فهو الذي تحقّ له العبادة‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ فإنهم بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب، وقد تقدّم أن الإحضار المطلق، مخصوص بالشرّ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ أي‏:‏ من كان مؤمناً به من قومه، قرئ بكسر اللام، وفتحها كما تقدّم، والمعنى على قراءة الكسر‏:‏ أنهم أخلصوا لله؛ وعلى قراءة الفتح‏:‏ أن الله استخلصهم من عباده‏.‏ وقد تقدّم تفسير ‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الآخرين سلام على إِلْ يَاسِينَ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، والأعرج، وشيبة على ‏{‏آل ياسين‏}‏ بإضافة آل بمعنى‏:‏ آل ياسين، وقرأ الباقون بكسر الهمزة، وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن، فإنه قرأ «الياسين» بإدخال آلة التعريف على ياسين‏.‏ قيل‏:‏ المراد على هذه القراءات كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية، ويكثر تغييرهم لها‏.‏ قال ابن جني‏:‏ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً؛ فياسين، وإلياس، وإلياسين شيء واحد‏.‏ قال الأخفش‏:‏ العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون‏:‏ المهالبة، على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب‏.‏ قال‏:‏ فعلى هذا إنه سمي كل رجل منهم بالياسين‏.‏ قال الفراء‏:‏ يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعاً، فيجعل أصحابه داخلين معه في اسمه‏.‏ قال أبو عليّ الفارسي‏:‏ تقديره‏:‏ الياسيين، إلا أن الياءين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين، والأعجمين‏.‏ ورجح الفرّاء، وأبو عبيدة قراءة الجمهور قالا‏:‏ لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين؛ لأنه إنما هو بمعنى‏:‏ إلياس، أو بمعنى‏:‏ إلياس، وأتباعه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ المراد بآل ياسين‏:‏ آل محمد‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وهذا بعيد؛ لأن ما بعده من الكلام، وما قبله لا يدلّ عليه، وقد تقدّم تفسير ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين‏}‏ مستوفى‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين‏}‏ قد تقدّم ذكر قصة لوط مستوفاة ‏{‏إِذْ نجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ‏}‏ الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر، ولا يصح تعلقه بالمرسلين، لأنه لم يرسل وقت تنجيته ‏{‏إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين‏}‏ قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى‏:‏ الماضي، ويكون بمعنى‏:‏ الباقي، فالمعنى‏:‏ إلا عجوزاً في الباقين في العذاب، أو الماضين الذين قد هلكوا ‏{‏ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين‏}‏ أي‏:‏ أهلكناهم بالعقوبة، والمعنى‏:‏ أن في نجاته، وأهله جميعاً إلا العجوز، وتدمير الباقين من قومه الذين لم يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ‏}‏ خاطب بهذا العرب، أو أهل مكة على الخصوص، أي‏:‏ تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب وقت الصباح ‏{‏وباليل‏}‏، والمعنى‏:‏ تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام، ورجوعكم منه نهاراً، وليلاً ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين، وموعظة للمتدبرين ‏{‏وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين‏}‏ يونس هو‏:‏ ذو النون، وهو‏:‏ ابن متى‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكان يونس قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم، وقصد البحر، وركب السفينة، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه، فوصف بالإباق، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون‏}‏ وأصل الإباق‏:‏ الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به‏.‏ وقال المبرد‏:‏ تأويل أبق بباعد، أي‏:‏ ذهب إليه، ومن ذلك قولهم‏:‏ عبد آبق‏.‏

وقد اختلف أهل العلم هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه، أو بعده‏؟‏ ومعنى المشحون‏:‏ المملوء ‏{‏فساهم فَكَانَ مِنَ المدحضين‏}‏ المساهمة أصلها‏:‏ المغالبة، وهي‏:‏ الاقتراع، وهو‏:‏ أن يخرج السهم على من غلب‏.‏ قال المبرد‏:‏ أي‏:‏ فقارع‏.‏ قال‏:‏ وأصله من السهام التي تجال، ومعنى ‏{‏فَكَانَ مِنَ المدحضين‏}‏‏:‏ فصار من المغلوبين‏.‏ قال‏:‏ يقال‏:‏ دحضت حجته، وأدحضها الله، وأصله من الزلق عن مقام الظفر، ومنه قول الشاعر‏:‏

قتلنا المدحضين بكل فج *** فقد قرت بقتلهم العيون

أي‏:‏ المغلوبين ‏{‏فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ يقال‏:‏ لقمت اللقمة، والتقمتها‏:‏ إذا ابتلعتها، أي‏:‏ فابتلعه الحوت، ومعنى ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏‏:‏ وهو مستحق للوم، يقال‏:‏ رجل مليم‏:‏ إذا أتى بما يلام عليه، وأما الملوم، فهو‏:‏ الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا، وقيل‏:‏ المليم‏:‏ المعيب، يقال‏:‏ ألام الرجل‏:‏ إذا عمل شيئاً صار به معيباً‏.‏ ومعنى هذه المساهمة‏:‏ أن يونس لما ركب السفينة احتبست‏.‏ فقال الملاحون‏:‏ ها هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري، فاقترعوا، فوقعت القرعة على يونس، فقال‏:‏ أنا الآبق، وزج نفسه في الماء‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ أي‏:‏ الذاكرين لله، أو المصلين له ‏{‏لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث‏.‏ وقيل‏:‏ للبث في بطنه حياً‏.‏ واختلف المفسرون‏:‏ كم أقام في بطن الحوت‏؟‏ فقال السدي، والكلبي، ومقاتل بن سليمان‏:‏ أربعين يوماً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عشرين يوماً‏.‏ وقال عطاء‏:‏ سبعة أيام‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ ثلاثة أيام، وقيل‏:‏ ساعة واحدة‏.‏ وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله، وتنشيط للذاكرين له‏.‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء وَهُوَ سَقِيمٌ‏}‏ النبذ‏:‏ الطرح، والعراء‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ هو‏:‏ الصحراء، وقال الأخفش‏:‏ الفضاء، وقال أبو عبيدة‏:‏ الواسع من الأرض، وقال الفراء‏:‏ المكان الخالي‏.‏ وروي عن أبي عبيدة أيضاً أنه قال‏:‏ هو وجه الأرض، وأنشد لرجل من خزاعة‏:‏

ورفعت رجلاً لا أخاف عثارها *** ونبذت بالبلد العراء ثيابي

والمعنى‏:‏ أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها، وهو عند إلقائه سقيم لما ناله في بطن الحوت من الضرر، قيل‏:‏ صار بدنه كبدن الطفل حين يولد‏.‏

وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله‏:‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء‏}‏، وقوله في موضع آخر‏:‏ ‏{‏لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بالعراء وَهُوَ مَذْمُومٌ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 49‏]‏ فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء‏.‏ وأجاب النحاس، وغيره بأن الله سبحانه أخبر ها هنا‏:‏ أنه نبذ بالعراء، وهو غير مذموم، ولولا رحمته عزّ وجلّ لنبذ بالعراء، وهو مذموم‏.‏ ‏{‏وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ‏}‏ أي‏:‏ شجرة فوقه تظلل عليه، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏عليه‏}‏‏:‏ عنده‏.‏ وقيل‏:‏ معنى عليه‏:‏ له‏.‏ واليقطين‏:‏ هي شجرة الدباء‏.‏ وقال المبرد‏:‏ اليقطين يقال‏:‏ لكل شجرة ليس لها ساق، بل تمتد على وجه الأرض نحو الدباء، والبطيخ، والحنظل، فإن كان لها ساق يقلها، فيقال لها‏:‏ شجرة فقط، وهذا قول الحسن، ومقاتل، وغيرهما‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو كل شيء ينبت، ثم يموت من عامه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ اليقطين‏:‏ ما لا ساق له من شجر كشجر القرع، ونحوه‏.‏ قال الزجاج‏:‏ اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان، أي‏:‏ أقام به، فهو يفعيل، وقيل‏:‏ هو‏:‏ اسم أعجمي‏.‏ قال المفسرون‏:‏ كان يستظل بظلها من الشمس، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة، وعشية، فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه، ونبت شعره، ثم أرسله الله بعد ذلك‏.‏ وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ هم قومه الذين هرب منهم إلى البحر، وجرى له ما جرى بعد هربه، كما قصه الله علينا في هذه السورة، وهم‏:‏ أهل نينوى‏.‏

قال قتادة‏:‏ أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل‏.‏ وقد مر الكلام على قصته في سورة يونس مستوفى، و«أو» في ‏{‏أو يزيدون‏}‏ قيل‏:‏ هي بمعنى‏:‏ الواو، والمعنى‏:‏ ويزيدون‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أو ها هنا بمعنى‏:‏ بل، وهو قول مقاتل، والكلبي‏.‏ وقال المبرد، والزجاج، والأخفش‏:‏ أو هنا على أصله، والمعنى‏:‏ أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي قال‏:‏ هؤلاء مائة ألف، أو يزيدون، فالشك إنما دخل على حكاية قول المخلوقين‏.‏ قال مقاتل، والكلبي‏:‏ كانوا يزيدون عشرين ألفاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بضعاً وثلاثين ألفاً‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ سبعين ألفاً‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد، ‏"‏ ويزيدون ‏"‏ بدون ألف الشك‏.‏

وقد وقع الخلاف بين المفسرين‏:‏ هل هذا الإرسال المذكور هو الذي كان قبل التقام الحوت له، وتكون الواو في‏:‏ ‏{‏وأرسلناه‏}‏ لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت، وبين إرساله إلى قومه، من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق، وتأخير ما تأخر، أو هو إرسال له بعد ما وقع له مع الحوت ما وقع على قولين‏؟‏ وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر، أو لم يرسل إلا بعد ذلك‏؟‏ والراجح‏:‏ أنه كان رسولاً قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس، وبقي مستمراً على الرسالة، وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته، ورسالته‏.‏ ‏{‏فَئَامَنُواْ فمتعناهم إلى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ وقع منهم الإيمان بعد ما شاهدوا أعلام نبوته، فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، ومنتهى أعمارهم‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر عن ابن مسعود قال‏:‏ إلياس هو‏:‏ إدريس‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة مثله‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الخضر هو‏:‏ إلياس ‏"‏ وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، وضعفه عن أنس قال‏:‏ «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل منزلاً، فإذا رجل في الوادي يقول‏:‏ اللَّهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المرحومة المغفور المثاب لها، فأشرفت على الوادي، فإذا طوله ثمانون ذراعاً وأكثر، فقال‏:‏ من أنت‏؟‏ فقلت‏:‏ أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أين هو‏؟‏ فقلت‏:‏ هو ذا يسمع كلامك، قال‏:‏ فأته، وأقرئه مني السلام، وقل له‏:‏ أخوك إلياس يقرئك السلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فجاء حتى عانقه، وقعدا يتحدّثان، فقال له‏:‏ يا رسول الله إني إنما آكل في كلّ سنة يوماً، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت، فنزلت عليهما المائدة من السماء خبز، وحوت، وكرفس، فأكلا، وأطعماني، وصليا العصر، ثم ودّعه، ثم رأيته مرّ على السحاب نحو السماء»‏.‏

قال الذهبي متعقباً لتصحيح الحاكم له‏:‏ بل موضوع قبح الله من وضعه‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏أَتَدْعُونَ بَعْلاً‏}‏ قال‏:‏ صنماً‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عنه في قوله‏:‏ ‏{‏سلام على إِلْ يَاسِينَ‏}‏ قال‏:‏ نحن آل محمد آل ياسين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ بعث الله يونس إلى أهل قريته، فردّوا عليه ما جاءهم به، فامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليهم إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا، وكذا‏.‏ فأخرج من بين أظهرهم، فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم، فقالوا‏:‏ ارمقوه، فإن خرج من بين أظهركم، فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج، فرآه القوم، فحذروا، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم، وفرّقوا بين كلّ دابة، وولدها، ثم عجوا إلى الله، وأنابوا، واستقالوا، فأقالهم الله، وانتظر يونس الخبر عن القرية، وأهلها حتى مرّ به مارّ، فقال‏:‏ ما فعل أهل القرية‏؟‏ قال‏:‏ إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كلّ ذات ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله، وتابوا إليه، فتقبل منهم، وأخرّ عنهم العذاب، فقال يونس عند ذلك‏:‏ لا أرجع إليهم كذاباً أبداً، ومضى على وجهه، وقد قدّمنا الكلام على قصته، وما روي فيها في سورة يونس، فلا نكرره‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فساهم‏}‏ قال‏:‏ اقترع ‏{‏فَكَانَ مِنَ المدحضين‏}‏ قال‏:‏ المقروعين‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ قال‏:‏ مسيء‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وأحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله ‏{‏فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين‏}‏ قال‏:‏ من المصلين‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ‏{‏فنبذناه بالعراء‏}‏ قال‏:‏ ألقيناه بالساحل‏.‏ وأخرج هؤلاء عنه أيضاً ‏{‏شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ‏}‏ قال‏:‏ القرع‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه أيضاً قال‏:‏ اليقطين‏:‏ كلّ شيء يذهب على وجه الأرض‏.‏ وأخرج أحمد في الزهد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه عنه أيضاً قال‏:‏ إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ثم تلا‏:‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ‏}‏ وقد تقدّم عنه ما يدلّ على أن رسالته كانت من قبل ذلك، وليس في الآية‏:‏ ما يدلّ على ما ذكره كما قدّمنا‏.‏ وأخرج الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله‏:‏ ‏{‏وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ‏}‏ قال‏:‏ يزيدون عشرين ألفاً‏.‏ قال الترمذي‏:‏ غريب‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ يزيدون ثلاثين ألفاً‏.‏ وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً‏.‏ وروي عنه‏:‏ أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفاً، ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 182‏]‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ‏(‏149‏)‏ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ ‏(‏150‏)‏ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏152‏)‏ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ‏(‏153‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏154‏)‏ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏155‏)‏ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ‏(‏156‏)‏ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏157‏)‏ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ‏(‏158‏)‏ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏159‏)‏ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏160‏)‏ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ‏(‏161‏)‏ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ‏(‏162‏)‏ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ ‏(‏163‏)‏ وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ‏(‏164‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ‏(‏165‏)‏ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ ‏(‏166‏)‏ وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ ‏(‏167‏)‏ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ ‏(‏168‏)‏ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏169‏)‏ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏170‏)‏ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏171‏)‏ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ‏(‏172‏)‏ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏173‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏174‏)‏ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏175‏)‏ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏176‏)‏ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏177‏)‏ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏178‏)‏ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ‏(‏179‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏180‏)‏ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ‏(‏181‏)‏ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏182‏)‏‏}‏

لما كانت قريش، وقبائل من العرب يزعمون‏:‏ أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتائهم على طريقة التقريع، والتوبيخ، فقال‏:‏ ‏{‏فاستفتهم‏}‏ يا محمد، أي‏:‏ استخبرهم ‏{‏أَلِرَبّكَ البنات وَلَهُمُ البنون‏}‏ أي‏:‏ كيف يجعلون لله، على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين، وأوضعهما، وهو‏:‏ الإناث، ولهم أعلاهما، وأرفعهما، وهم‏:‏ الذكور، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم، وسوء إدراكهم‏؟‏ ومثله قوله‏:‏ ‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 21، 22‏]‏ ثم زاد في توبيخهم، وتقريعهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا وَهُمْ شاهدون‏}‏ فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو أشدّ منه في التبكيت، والتهكم بهم، أي‏:‏ كيف جعلوهم إناثاً، وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ فبيّن سبحانه‏:‏ أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا، ولا دلّ دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم‏.‏

ثم أخبر سبحانه عن كذبهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فبيّن سبحانه أن قولهم هذا هو من الإفك، والافتراء من دون دليل، ولا شبهة دليل، فإنه لم يلد، ولم يولد‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏ولد الله‏}‏ فعلاً ماضياً مسنداً إلى الله‏.‏ وقرئ بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ يقولون الملائكة ولد الله، والولد بمعنى‏:‏ مفعول يستوي فيه المفرد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث‏.‏ ثم كرر سبحانه تقريعهم، وتوبيخهم، فقال‏:‏ ‏{‏أَصْطَفَى البنات على البنين‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري، وقد حذف معها همزة الوصل استغناء به عنها‏.‏ وقرأ نافع في رواية عنه، وأبو جعفر، وشيبة، والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء، وتسقط درجاً، ويكون الاستفهام منوياً قاله الفراء‏.‏ وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى، وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول‏.‏ وعلى تقدير عدم الاستفهام، والبدل‏.‏ فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء‏:‏ أن التوبيخ يكون باستفهام، وبغير استفهام كما في قوله‏:‏ ‏{‏أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏، وقيل‏:‏ هو على إضمار القول ‏{‏مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب‏:‏ استفهمهم أوّلاً عما استقرّ لهم، وثبت استفهام بإنكار، وثانياً استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى‏:‏ أيّ شيء ثبت لكم كيف تحكمون لله بالبنات، وهم‏:‏ القسم الذي تكرهونه، ولكم بالبنين، وهم‏:‏ القسم الذي تحبونه ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتذكرون، فحذفت إحدى التاءين، والمعنى‏:‏ ألا تعتبرون، وتتفكرون، فتتذكرون بطلان قولكم ‏{‏أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ، وانتقال من تقريع إلى تقريع‏.‏

‏{‏فَأْتُواْ بكتابكم إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي‏:‏ فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه، أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة، ويشتمل عليها‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ إن المراد بالجنة هنا‏:‏ الملائكة، قيل لهم‏:‏ جنة، لأنهم لا يرون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم‏:‏ الجنة‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ إنما قيل لهم؛ الجنة؛ لأنهم خزّان على الجنان‏.‏ والنسب الصهر‏.‏ قال قتادة، والكلبي‏:‏ قالوا‏:‏ لعنهم الله‏:‏ إن الله صاهر الجنّ، فكانت الملائكة من أولادهم؛ قالا‏:‏ والقائل بهذه المقالة اليهود‏.‏ وقال مجاهد، والسدّي، ومقاتل‏:‏ إن القائل بذلك كنانة، وخزاعة قالوا‏:‏ إن الله خطب إلى سادات الجن، فزوّجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه‏.‏ ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار، ويعذبون فيها‏.‏ وقيل‏:‏ علمت الجنة أنفسهم يحضرون للحساب‏.‏ والأوّل أولى، لأن الإحضار إذا أطلق، فالمراد العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة‏.‏ ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال‏:‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عزّ وجلّ عما وصفه به المشركون، والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ منقطع، والتقدير‏:‏ لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك‏.‏ وقد قرئ بفتح اللام، وكسرها، ومعناهما ما بيناه قريباً‏.‏ وقيل‏:‏ هو استثناء من المحضرين، أي‏:‏ إنهم يحضرون النار إلا من أخلص، فيكون متصلاً لا منقطعاً، وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة‏.‏

ثم خاطب الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين‏}‏ أي‏:‏ فإنكم، وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده، وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين‏.‏ والواو في ‏{‏وما تعبدون‏}‏ إما للعطف على اسم إن، أو هو بمعنى‏:‏ مع، وما موصولة، أو مصدرية، أي‏:‏ فإنكم، والذي تعبدون، أو وعبادتكم، ومعنى‏:‏ ‏{‏فاتنين‏}‏‏:‏ مضلين، يقال‏:‏ فتنت الرجل، وأفتنته، ويقال‏:‏ فتنه على الشيء، وبالشيء كما يقال‏:‏ أضله على الشيء، وأضله به‏.‏ قال الفراء‏:‏ أهل الحجاز يقولون‏:‏ فتنته، وأهل نجد يقولون‏:‏ أفتنته، ويقال‏:‏ فتن فلان على فلان امرأته، أي‏:‏ أفسدها عليه، فالفتنة هنا بمعنى‏:‏ الإضلال، والإفساد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يقول‏:‏ ما أنتم بمضلين أحداً بآلهتكم إلا من قدَر الله له أن يصلى الجحيم، «وما» في ‏{‏وَمَا أَنتُمْ‏}‏ نافية و‏{‏أَنتُمْ‏}‏ خطاب لهم، ولمن يعبدونه على التغليب‏.‏

قال الزجاج‏:‏ أهل التفسير مجمعون فما علمت أن المعنى‏:‏ ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدّر الله عزّ وجلّ عليه أن يضلّ، ومنه قول الشاعر‏:‏

فردّ بفتنته، كيده *** عليه، وكان لنا فاتناً

أي‏:‏ مضلاً ‏{‏إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم‏}‏ قرأ الجمهور ‏{‏صال‏}‏ بكسر اللام؛ لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين، وحمل على لفظ من، وأفرد كما أفرد هو‏.‏ وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها، وروي عنهما‏:‏ أنهما قرآ بضم اللام بدون واو‏.‏ فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملاً على معنى‏:‏ من، وحذفت نون الجمع للإضافة، وأما بدون الواو، فيحتمل أن يكون جمعاً، وإنما حذفت الواو خطاً كما حذفت لفظاً، ويحتمل أن يكون مفرداً، وحقه على هذا كسر اللام‏.‏ قال النحاس‏:‏ وجماعة أهل التفسير يقولون‏:‏ إنه لحن؛ لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة، والمعنى‏:‏ أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله، إلا من هو من أهل النار، وهم المصرّون على الكفر، وإنما يصرّ على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وإنه ممن يصلى النار، أي‏:‏ يدخلها‏.‏

ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله سبحانه عنهم‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏، وفي الكلام حذف، والتقدير‏:‏ وما منا أحد، أو وما منا ملك إلا له مقام معلوم في عبادة الله‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير‏:‏ وما منا إلا من له مقام معلوم، رجح البصريون التقدير الأوّل، ورجح الكوفيون الثاني‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا قول الملائكة، وفيه مضمر‏.‏ المعنى‏:‏ وما منا ملك إلا له مقام معلوم‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ أي‏:‏ في مواقف الطاعة‏.‏ قال قتادة‏:‏ هم‏:‏ الملائكة صفوا أقدامهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏ أي‏:‏ المنزّهون لله المقدّسون له عما أضافه إليه المشركون‏.‏ وقيل‏:‏ المصلون، وقيل‏:‏ المراد بقولهم ‏{‏المسبحون‏}‏‏:‏ مجموع التسبيح باللسان، وبالصلاة، والمقصود أن هذه الصفات هي‏:‏ صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله ‏{‏وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ‏}‏ هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين، أي‏:‏ كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين‏}‏ أي‏:‏ كتاباً من كتب الأوّلين كالتوراة، والإنجيل ‏{‏لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين‏}‏ أي‏:‏ لأخلصنا العبادة له، ولم نكفر به، و«إن» في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ‏}‏ هي‏:‏ المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير شأن محذوف، واللام هي‏:‏ الفارقة بينها، وبين النافية، أي‏:‏ وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون إلخ، والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فَكَفَرُواْ بِهِ‏}‏ هي‏:‏ الفصيحة الدالة على محذوف مقدّر في الكلام‏.‏

قال الفراء‏:‏ تقديره‏:‏ فجاءهم محمد بالذكر، فكفروا به، وهذا على طريق التعجب منهم ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ عاقبة كفرهم، ومغبته، وفي هذا تهديد لهم شديد‏.‏

وجملة ‏{‏وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين‏}‏ مستأنفة مقرّرة للوعيد، والمراد بالكلمة‏:‏ ما وعدهم الله به من النصر، والظفر على الكفار‏.‏ قال مقاتل‏:‏ عنى بالكلمة‏:‏ قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ وقال الفراء‏:‏ سبقت كلمتنا بالسعادة لهم، والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا، فإنه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ فهذه هي الكلمة المذكورة سابقاً، وهذا تفسير لها، والمراد بجند الله‏:‏ حزبه، وهم الرسل، وأتباعهم‏.‏ قال الشيباني‏:‏ جاء هنا على الجمع‏:‏ يعني‏:‏ قوله ‏{‏لَهُمُ الغالبون‏}‏ من أجل أنه رأس آية، وهذا الوعد لهم بالنصر، والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو‏:‏ انتصارهم على الأعداء، وغلبتهم لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 83‏]‏‏.‏

ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم، والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات، والضلالات، فقال‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنهم إلى مدّة معلومة عند الله سبحانه، وهي‏:‏ مدة الكف عن القتال‏.‏ قال السدّي، ومجاهد‏:‏ حتى نأمرك بالقتال‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلى الموت، وقيل‏:‏ إلى يوم بدر، وقيل‏:‏ إلى يوم فتح مكة، وقيل‏:‏ هذه الآية منسوخة بآية السيف ‏{‏وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ وأبصرهم إذا نزل بهم العذاب بالقتل، والأسر، فسوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار، وعبر بالإبصار عن قرب الأمر، أي‏:‏ فسوف يبصرون عن قريب‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة‏.‏ ثم هددهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ كانوا يقولون من فرط تكذيبهم‏:‏ متى هذا العذاب‏؟‏ ‏{‏فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم، والساحة في اللغة‏:‏ فناء الدار الواسع‏.‏ قال الفراء‏:‏ نزل بساحتهم، ونزل بهم سواء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وكان عذاب هؤلاء بالقتل، قيل‏:‏ المراد به نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم يوم فتح مكة‏.‏ قرأ الجمهور ‏{‏نزل‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏ وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل ‏{‏فَسَاء صَبَاحُ المنذرين‏}‏ أي‏:‏ بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، والمخصوص بالذم محذوف، أي‏:‏ صباحهم‏.‏ وخصّ الصباح بالذكر؛ لأن العذاب كان يأتيهم فيه‏.‏ ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب، فقال‏:‏ ‏{‏وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ‏}‏، وحذف مفعول أبصر ها هنا، وذكره أوّلاً إما لدلالة الأوّل عليه، فتركه هنا اختصاراً، أو قصداً إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف‏.‏

وقيل‏:‏ هذه الجملة المراد بها‏:‏ أحوال القيامة، والجملة الأولى المراد بها‏:‏ عذابهم في الدنيا، وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس‏.‏

ثم نزّه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم، فقال‏:‏ ‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ العزّة‏:‏ الغلبة، والقوة، والمراد‏:‏ تنزيهه عن كل ما يصفونه به مما لا يليق بجنابه الشريف، وربّ العزّة بدل من ربك‏.‏ ثم ذكر ما يدلّ على تشريف رسله، وتكريمهم، فقال‏:‏ ‏{‏وسلام على المرسلين‏}‏ أي‏:‏ الذين أرسلهم إلى عباده، وبلغوا رسالاته، وهو من السلام الذي هو‏:‏ التحية‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ أمن لهم، وسلامة من المكاره ‏{‏والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين، ومنذرين، وتعليم لهم كيف يصنعون عند إنعامه عليهم، وما يثنون عليه به‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الحمد على هلاك المشركين، ونصر الرسل عليهم، والأولى أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين كما يفيده حذف المحمود عليه، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرّر في علم المعاني، والحمد هو‏:‏ الثناء الجميل بقصد التعظيم‏.‏

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً‏}‏ قال‏:‏ زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ قال‏:‏ فإنكم يا معشر المشركين، وما تعبدون يعني‏:‏ الآلهة ‏{‏مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين‏}‏ قال‏:‏ بمضلين ‏{‏إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم‏}‏ يقول‏:‏ إلا من سبق في علمي أنه سيصلى الجحيم‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية يقول‏:‏ إنكم لا تضلون أنتم، ولا أضلّ منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم‏.‏ وأخرج عبد بن حميد، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ لا تفتنون إلا من هو صال الجحيم‏.‏

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏ قال‏:‏ الملائكة ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏ قال‏:‏ الملائكة‏.‏ وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد، أو قائم، وذلك قول الملائكة‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون‏}‏» وأخرج محمد بن نصر، وابن عساكر عن العلاء بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه‏:‏ «أطت السماء، وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع، أو ساجد»

، ثم قرأ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏‏.‏ وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال‏:‏ إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا، وعليه جبهة ملك، أو قدماه قائماً، أو ساجداً، ثم قرأ ‏{‏وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون‏}‏‏.‏ وأخرج الترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطت، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله ‏"‏ وقد ثبت في الصحيح، وغيره‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصفوا كما تصفّ الملائكة عند ربهم، فقالوا‏:‏ وكيف تصفّ الملائكة عند ربهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ يقيمون الصفوف المقدّمة، ويتراصون في الصف ‏"‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الأولين‏}‏ قال‏:‏ لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأوّلين، وعلم الآخرين كفروا بالكتاب ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أنس قال‏:‏ صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وقد خرجوا بالمساحي، فلما نظروا إليه قالوا‏:‏ محمد، والخميس، فقال‏:‏ ‏"‏ الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين ‏"‏ الحديث‏.‏ وأخرج ابن سعد، وابن مردويه من طريق سعيد، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا سلمتم على المرسلين، فسلموا عليّ، فإنما أنا بشر من المرسلين ‏"‏ وأخرج ابن مردويه من طريق أبي العوام، عن قتادة، عن أنس مرفوعاً نحوه بأطول منه‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو يعلى، وابن مردويه، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال‏:‏ «‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وسلام على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏»‏.‏ وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال‏:‏ كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة بقوله‏:‏ ‏{‏سبحان رَبّكَ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد‏.‏ وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قال دبر كل صلاة‏:‏ ‏{‏سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وسلام على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ثلاث مرات، فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ‏"‏ وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن عليّ بن أبي طالب نحوه‏.‏

سورة ص

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ ‏(‏1‏)‏ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ‏(‏2‏)‏ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ‏(‏3‏)‏ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏4‏)‏ أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ‏(‏5‏)‏ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ‏(‏6‏)‏ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ‏(‏7‏)‏ أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ‏(‏9‏)‏ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ‏(‏10‏)‏ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف‏.‏ وقرأ أبيّ بن كعب، والحسن، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن أبي عبلة، وأبو السماك بكسر الدال من غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل‏:‏ وجه الكسر أنه من صادى يصادي إذا عارض، والمعنى‏:‏ صاد القرآن بعملك، أي‏:‏ عارضه بعملك، وقابله، فاعمل به، وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال‏:‏ إنه فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى‏:‏ أتله، وتعرّض لقراءته‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر‏:‏ ‏"‏ صاد ‏"‏ بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، وقيل‏:‏ نصب على الإغراء‏.‏ وقيل‏:‏ معناه‏:‏ صاد محمد قلوب الخلق، واستمالها حتى آمنوا به، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن أبي إسحاق أيضاً‏:‏ أنه قرأ‏:‏ ‏"‏ صاد ‏"‏ بالكسر والتنوين تشبيهاً لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات‏.‏ وقرأ هارون الأعور، وابن السميفع‏:‏ ‏"‏ صاد ‏"‏ بالضم من غير تنوين على البناء نحو‏:‏ منذ، وحيث‏.‏

وقد اختلف في معنى «صاد»، فقال الضحاك‏:‏ معناه‏:‏ صدق الله‏.‏ وقال عطاء‏:‏ صدق محمد‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو‏:‏ بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ هو‏:‏ مفتاح اسم الله‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو‏:‏ اسم من أسماء الله‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ هو اسم من أسماء الرحمن‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو‏:‏ فاتحة السورة‏.‏ وقيل‏:‏ هو‏:‏ مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحقّ كما قدّمنا في فاتحة سورة البقرة‏.‏ قيل‏:‏ وهو إما اسم للحروف مسروداً على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر، أو اقرأ، والواو في قوله‏:‏ ‏{‏والقرءان ذِى الذكر‏}‏ هي‏:‏ واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره، وعلوّ محله، ومعنى ‏{‏ذِى الذكر‏}‏‏:‏ أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شيء‏.‏ قال مقاتل‏:‏ معنى ‏{‏ذِى الذكر‏}‏‏:‏ ذي البيان‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذي الشرف كما في قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ شرفكم، وقيل‏:‏ أي‏:‏ ذي الموعظة‏.‏

واختلف في جواب هذا القسم ما هو‏؟‏ فقال الزجاج، والكسائي، والكوفيون غير الفراء‏:‏ إنه قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 64‏]‏، وقال الفراء‏:‏ لا نجده مستقيماً لتأخره جدًّا عن قوله‏:‏ ‏{‏والقرءان‏}‏، ورجح هو، وثعلب‏:‏ أن الجواب قوله‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏، وقال الأخفش‏:‏ الجواب هو‏:‏ ‏{‏إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ‏}‏، وقيل‏:‏ هو صاد، لأن معناه‏:‏ حقّ، فهو‏:‏ جواب لقوله‏:‏ ‏{‏والقرءان‏}‏ كما تقول‏:‏ حقاً والله، وجب والله‏.‏ ذكره ابن الأنباري، وروي أيضاً عن ثعلب، والفراء، وهو مبنيّ على أن جواب القسم يجوز تقدّمه، وهو ضعيف‏.‏

وقيل‏:‏ الجواب محذوف، والتقدير‏:‏ والقرآن ذي الذكر لتبعثنّ، ونحو ذلك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في ‏{‏والقرءان‏}‏ للعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن دالاً على صدقه، وأنه حقّ، وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏، فأضرب عن ذلك، وكأنه قال‏:‏ لا ريب فيه قطعاً، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه‏.‏ بل هم في عزّة عن قبول الحقّ، أي‏:‏ تكبر، وتجبر‏.‏ وشقاق، أي‏:‏ وامتناع عن قبول الحقّ، والعزّة عند العرب‏:‏ الغلبة، والقهر، يقال‏:‏ من عزَّ بزَّ، أي‏:‏ من غلب سلب، ومنه ‏{‏وَعَزَّنِى فِى الخطاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 23‏]‏ أي‏:‏ غلبني، ومنه قول الشاعر‏:‏

يعزّ على الطريق بمنكبيه *** كما ابترك الخليع على القداح

والشقاق‏:‏ مأخوذ من الشقّ، وقد تقدّم بيانه‏.‏ ثم خوّفهم سبحانه، وهدّدهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار، فقال‏:‏ ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل، أي‏:‏ كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين كانوا أمنع من هؤلاء، وأشدّ قوة، وأكثر أموالاً، وكم هي‏:‏ الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا على أنها مفعول به، و‏[‏من قرن‏]‏ تمييز، و«من» في ‏{‏مِن قَبْلِهِمُ‏}‏ هي لابتداء الغاية‏.‏ ‏{‏فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ النداء هنا‏:‏ هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص‏.‏ قال الحسن‏:‏ نادوا بالتوبة، وليس حين التوبة، ولا حين ينفع العمل‏.‏ والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت، والتأخر‏.‏ ولات بمعنى‏:‏ ليس، بلغة أهل اليمن‏.‏ وقال النحويون‏:‏ هي‏:‏ لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم‏:‏ ربّ، وربت، وثمّ وثمت قال الفراء‏:‏ النوص‏:‏ التأخر، وأنشد قول امرئ القيس‏:‏

أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص *** قال‏:‏ يقال‏:‏ ناص عن قرنه ينوص نوصاً أي‏:‏ فرّ، وزاغ‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويقال‏:‏ ناص ينوص‏:‏ إذا تقدّم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ أنه قال بعضهم لبعض‏:‏ مناص، أي‏:‏ عليكم بالفرار، والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا‏:‏ مناص، فقال الله‏:‏ ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ قال سيبويه‏:‏ لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر، أي‏:‏ ليس حيننا حين مناص‏.‏ قال الزجاج‏:‏ التقدير‏:‏ وليس أواننا‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه قال المبرد، والأخفش‏.‏ قال الكسائي، والفرّاء، والخليل، وسيبويه، والأخفش‏:‏ والتاء تكتب منقطعة عن حين، وكذلك هي في المصاحف‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ تكتب متصلة بحين، فيقال‏:‏ ‏(‏ولا تحين‏)‏، ومنه قول أبيّ، وجرة السعدي‏:‏

العاطفون تحين ما من عاطف *** والمطعمون زمان ما من مطعم

وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر‏:‏

تذكر حبّ ليلى لات حينا *** وأمسى الشيب قد قطع القرينا

قال أبو عبيد‏:‏ لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين، وأوان، والآن‏.‏ قلت‏:‏ بل قد يزيدونها في غير ذلك كما في قول الشاعر‏:‏

فلتعرفن خلائقا مشمولة *** ولتندمنّ ولات ساعة مندم

وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلاً به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة‏:‏ ‏{‏وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ في محل نصب على الحال من ضمير نادوا‏.‏ قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لات‏}‏ بفتح التاء، وقرئ‏:‏ ‏"‏ لات ‏"‏ بالكسر كجير ‏{‏وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزّة وشقاق أن جاءهم منذر منهم، أي‏:‏ رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمرّوا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض، أي‏:‏ من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم ‏{‏وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ‏}‏ قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، أي‏:‏ هذا المدّعي للرسالة ساحر فيما يظهره من المعجزات كذاب فيما يدّعيه من أن الله أرسله‏.‏ قيل‏:‏ ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر‏.‏ ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وسلم من التوحيد، وما نفاه من الشركاء لله، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا‏}‏ أي‏:‏ صيرها إلها واحداً، وقصرها على الله سبحانه ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ عُجَابٌ‏}‏ أي‏:‏ لأمر بالغ في العجب إلى الغاية‏.‏ قال الجوهري‏:‏ العجيب‏:‏ الأمر الذي يتعجب منه‏.‏ وكذلك العجاب بالضم، والعجاب بالتشديد أكثر منه، قرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عجاب‏}‏ مخففاً‏.‏ وقرأ عليّ، والسلمي وعيسى بن عمر، وابن مقسم بتشديد الجيم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل‏:‏ والعجاب بالتخفيف والتشديد يدلان على أنه قد تجاوز الحدّ في العجب، كما يقال‏:‏ الطويل الذي فيه طول‏.‏ والطوال‏:‏ الذي قد تجاوز حدّ الطول، وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدّد الجيم لا بالمخفف، وقد قدّمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات‏.‏ ‏{‏وانطلق الملأ مِنْهُمْ‏}‏ المراد بالملأ‏:‏ الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز، أي‏:‏ انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين‏:‏ ‏{‏أَنِ امشوا‏}‏ أي‏:‏ قائلين لبعضهم بعضاً امضوا على ما كنتم عليه، ولا تدخلوا في دينه‏.‏ ‏{‏وَاْصْبِرُواْ على ءالِهَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اثبتوا على عبادتها، وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ وانطلق الأشراف منهم، فقالوا للعوامّ‏:‏ امشوا، واصبروا على آلهتكم، و«أن» في قوله‏:‏ ‏{‏أَنِ امشوا‏}‏ هي‏:‏ المفسرة للقول المقدّر، أو لقوله‏:‏ ‏{‏وانطلق‏}‏، لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر، أو للمذكور، أي‏:‏ بأن امشوا‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالانطلاق‏:‏ الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة‏.‏ إذا كثرت ولادتها، أي‏:‏ اجتمعوا، وأكثروا، وهو بعيد جدًّا، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق، والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة ‏{‏إِنَّ هذا لَشَئ يُرَادُ‏}‏ تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر، أي‏:‏ يريده محمد بنا، وبآلهتنا، ويودّ تمامه، ليعلو علينا، ونكون له أتباعاً، فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجاً مخرج التحذير منه، والتنفير عنه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ إن دينكم لشيء يراد، أي‏:‏ يطلب، ليؤخذ منكم، وتغلبوا عليه، والأوّل أولى‏.‏ ‏{‏مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة‏}‏ أي‏:‏ ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة‏.‏ وهي‏:‏ ملة النصرانية، فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، والسدي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعنون‏:‏ ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضاً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المعنى‏:‏ ما سمعنا أن هذا يكون آخر الزمان‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ ما سمعنا من اليهود، والنصارى أن محمداً رسول ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق‏}‏ أي‏:‏ ما هذا إلا كذب اختلقه محمد، وافتراه‏.‏ ثم استنكروا أن يخصّ الله رسوله بمزية النبوّة دونهم، فقالوا‏:‏ ‏{‏أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا‏}‏ والاستفهام للإنكار أي‏:‏ كيف يكون ذلك، ونحن الرؤساء، والأشراف‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قالوا‏:‏ كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا، ونحن أكبر سناً، وأعظم شرفاً منه، وهذا مثل قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلا نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء‏.‏ ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فقال‏:‏ ‏{‏بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى‏}‏ أي‏:‏ من القرآن، أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حقّ منزل من عند الله ‏{‏بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ‏}‏ أي‏:‏ بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي، فاغترّوا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشكّ لصدّقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه‏.‏ ‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب‏}‏ أي‏:‏ مفاتيح نعم ربك، وهي النبوّة، وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم، ولإنكار ما تفضل الله به على هذا النبيّ، واختاره له، واصطفاه لرسالته‏.‏ والمعنى‏:‏ بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة‏.‏ والعزيز‏:‏ الغالب القاهر‏.‏ والوهاب‏:‏ المعطي بغير حساب‏.‏ ‏{‏أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي‏:‏ بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء‏؟‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب‏}‏ جواب شرط محذوف، أي‏:‏ إن كان لهم ذلك، فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء، أو إلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء، ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والأسباب‏:‏ أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد، وقتادة، ومنه قول زهير‏:‏

ولو رام أسباب السماء بسلم *** قال الربيع بن أنس‏:‏ الأسباب‏:‏ أدقّ من الشعر، وأشدّ من الحديد، ولكن لا ترى‏.‏ وقال السدّي‏:‏ ‏{‏فِى الاسباب‏}‏‏:‏ في الفضل، والدين‏.‏ وقيل‏:‏ فليعملوا في أسباب القوّة إن ظنوا أنها مانعة، وهو قول أبي عبيدة‏.‏ وقيل‏:‏ الأسباب‏:‏ الحبال، يعني‏:‏ إن وجدوا حبالاً يصعدون فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة‏:‏ كل شيء يتوصل به إلى المطلوب كائناً ما كان‏.‏ وفي هذا الكلام تهكم بكم، وتعجيز لهم ‏{‏جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحزاب‏}‏ هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر عليهم، والظفر بهم، و‏{‏جند‏}‏ مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هم جند، يعني‏:‏ الكفار، مهزوم‏:‏ مكسور عما قريب، فلا تبال بهم، ولا تظن أنهم يصلون إلى شيء مما يضمرونه بك منا لكيد، و«ما» في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا هُنَالِكَ‏}‏ هي‏:‏ صفة لجند لإفادة التعظيم، والتحقير، أي‏:‏ جند أيّ جند‏.‏ وقيل‏:‏ هي زائدة، يقال‏:‏ هزمت الجيش‏:‏ كسرته، وتهزمت القرية‏:‏ إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدّم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ‏}‏ وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزّتهم، وشقاقهم، فإني أسلب عزّهم، وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك، ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله‏.‏ وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال‏:‏ سئل جابر بن عبد الله، وابن عباس عن ‏{‏ص‏}‏، فقال‏:‏ لا ندري ما هو‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏ص‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير عنه ‏{‏والقرءان ذِى الذكر‏}‏ قال‏:‏ ذي الشرف‏.‏ وأخرج أبو داود الطيالسي، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه عن التميمي قال‏:‏ سألت ابن عباس عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ‏}‏ قال‏:‏ ليس بحين نزو، ولا فرار‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال‏:‏ نادوا النداء حين لا ينفعهم، وأنشد‏:‏

تذكرت ليلى لات حين تذكر *** وقد بنت منها والمناص بعيد

وأخرج عنه أيضاً في الآية قال‏:‏ ليس هذا حين زوال‏.‏ وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضاً قال‏:‏ لا حين فرار‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وانطلق الملأ مِنْهُمْ‏}‏ الآية قال‏:‏ نزلت حين انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب، فكلموه في النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن مردويه عنه ‏{‏وانطلق الملأ مِنْهُمْ‏}‏ قال‏:‏ أبو جهل‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله‏:‏ ‏{‏مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة‏}‏ قال‏:‏ النصرانية‏.‏ وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله ‏{‏فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب‏}‏ قال‏:‏ في السماء‏.‏